07 ديسمبر، 2008

كانت تأتي سراً



مالك أبو خير




كانت تأتي لمنزله سراً، وكأنها عصفورةً اهتدت أخيراً لعشها الأبدي، وجهها يحمل من الطفولة والبراءة و السحر ما يكفي مدينة بأكملها، واضحين بشكل جلي رغم ما تحمل وجنتيها من كدمات، وما تحمله عينيها من خوف لفقدان شيء ما.
في كل مرة تأتي الحي تجدها تختبئ بين الجدران وخلف ظلال الأزقة والسيارات، وبقدر ما تحمل عيناها الخوف كانت تحمل الفرحة العارمة وخصوصاً عندما تقترب من ذاك المنزل الذي اعتبرته ملاذها الآمن، تركيبة غريبة لفتت انتباهي وحركت فضولي الذي لم ينم يوماً، وخصوصاً وأنني على علم بتصرفات صاحب هذا المنزل وأعرف جيداً سيره الطويلة مع النساء .. نساء ولكن من نوع أخر مختلف عن نوعها تماماً، فهم رحلت البراءة عن وجوههم منذ زمن بعيد، وهي نوع من الخطأ قدومه لهذا المكان.
في كل يوم تأتي به كان فضولي يزداد أكثر، يدفعني لمعرفة سبب مجيئها لهكذا مكان كنت متأكد باختلافها عنه شكلاً ... ومضموناً، فتوجهت للقهوة حيث يجلس صاحب المنزل بشكل يومي يحادث بها وعلناً أخر إبداعاته النسائية والعاطفية، وسعيت إلى أن استطعت التعرف إليه وكسب وده والحديث معه، متحملاً سيره النسائية بأكملها للوصول إلى هدفي الأساسي ألا وهو هذه الفتاة.
وبعد سماعي لقصصه المختلفة سألته بتعجب عن أمرها " والتي رأيتها مصادفةً" تصعد إلى قصرك النسائي مع ملاحظتي على أنها مختلفة عن كل السابقات الذين حدثتني عنهن، وهنا اختلفت نظرته تماماً ونظر إلى فنجانه بتأمل مع بعض الحسرة والألم اللذان لا يتفقان أبداً مع هكذا شخصية مستهترة، ليسألني بعد هذا التأمل عن سبب سؤالي عنها بالذات .. فأجبته من باب الفضول ليس أكثر ولا أقل ..
فقال لي: ( هذه الفتاة تعتبر الوحيدة التي أحبتني بصدق في حياتي كلها، ومختلفة عن كل من عرفتهن، فهي من أسرة مكونة من أربعة أخوة وثلاث فتيات .. فقر المال نخر جدران منزلهم، ولغة الحوار بين الأب وإخوتها الذكور معهم مقتصرة على الضرب والشتائم، لكونها لغة ترعرعوا عليها وتعودا على استخدامها مع النساء، فالمرأة في نظرهم لا تستحق أكثر من ذلك فضلاً عن كونها الوسيلة الأفضل لمنعهن من الانحراف أو اختيار الطريق الخاطئ أي استخدام سياسة زرع الخوف في قلوبهم لمنعهم من الخطيئة.
وبكونها تعمل في احد المحلات التي أتردد عليها باستمرار، تعرفت إليها ووجدتها قد انجذبت إلي بسرعة كبيرة والسبب ... أنني خاطبتها بلهجة لم تعتد يوما على التخاطب بها، لغة أحسستها من خلالها بأنها عبارة عن فراشة جميلة وحساسة وذكية، وتتمتع بجمال يلفت الأنظار ويدخل القلوب دون إنذار مسبق ... بإختصار خاطبت بشخصيتها أشياء لم تعد يوما على المخاطبة بها، واعدت إليها أنوثتها التي بدأت تخسرها كل يوم مجرد دخولها باب منزلها، وكان ذلك واضحا من أثار الكدمات المتراكمة على وجهها كل يوم.
هي في المقابل شعرت أنني الشخص الوحيد الذي بات يتفهما في هذا الكون، وقد تفاعلت معي مباشرةً لكونها لم تكن كثيرة التعاطي مع من حولها فهي رغم بلوغها العشرين من العمر لم تخرج بعد توقفها عن الدراسة في الخامس الابتدائي خارج منزلها سوى بضع أمتار أي إلى جيرانها وأقاربها وبمرافقة الأهل دوماً وتحت ناظرهم، وعندما أشتد الفقر عليهم أكثر من الأول أضطر والدها لجلبها للعمل في المحل حيث أتردد، ليتركها فريسة بين أيدي صاحبه وزبائنه والذي كنت أنا أولهم).
وهنا خرج السؤال عن كيفية استغلال وضع هكذا فتاة دون القدرة على كتمانه .. ليجيب وبكل بساطة بأنه إذا لم يقم هو باقتناص الفرصة سيأتي غيره ويقتنصها، بدأً من صاحب المحل الذي بات معتاداً على أخذ المال منه مقابل الصمت عن خروجها باكراً والتوجه لمنزله في كل مرة.
عدت للمنزل ومئات الأفكار تدور كالإعصار في خاطري، تطرح الأسئلة علي وأجيب بتردد .. أهمها وأكثرها إلحاحاً، من هو المسؤول هنا ومن المخطئ .. الأب وأولاده الذين ورثوا أسلوب تعاملهم اليومي عمن سلفهم أم الأم التي لاحول لها ولا قوة ...أم ذلك الفتى المفتخر بقصره النسائي أم صاحب المحل الذي قبل على نفسه لعب دور القواد ... أم على الفتاة التي انجرت خلف أحاسيسها لترمي بنفسها عارية بين أحضان من أمدها بجرعات عشق أشعرتها بوجودها كأنثى .. أم على واقع لا يرحم بات الضعيف فيه صيداً سهل المنال ..
لكنني وفي النهاية وجدت أننا بتنا نعيش في "زمن التناقضات" حيث الجميع على خطأ والجميع يدعى الصواب بدأً من الفتى الذي اعتبر الفتاة التي وجدت شخصيتها وأنوثتها من خلاله صيداً ثميناً من الغباء تركه للغير .. وصولاً للأهل الوارثين لهكذا أسلوب في التعامل عمن سبقهم منغلقين ضمن مجتمعات محدودة التفكير أساساً، ظالمين عبر أسلوبهم هذا هذه الفتاة التي تحتاج للحوار بدلا من العنف، ولتكون نهايتها في نهاية الأمر إما الهرب إلى المجهول، أو الموت بطعنة سكين أو رصاصة على يد احد ذكور عائلتها ليتكفل القضاء بإعادته لمجتمعه المحدود التفكير والمغلق مرفوع الرأس و"منتصراً" عبر القانون الخاص بجرائم الشرف المتكفل بتأمين البراءة القانونية لكل من شارك بقتلها.

نشرت في مجلة الثرى

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق