07 ديسمبر، 2008

اللاجئون العراقيون .. رحيل من نار الأخ والمحتل

مالك أبو خير

رصاص وقذائف .. قنابل وسيارات مفخخة ... جثث مرمية على الطرقات، فيما حافظات المستشفيات فاضت بقتلاها..
نزوح من أرض كانت يوماً ملجأً لكل هارب من ظلم وطغيان... أهلها باتوا يعيشون غربة ضمن وطنهم، وغربة أقسى وأشد إلى من لجؤوا إليهم.
السلاح احتل منصة القانون، وبات الحاكم الأول والأخير في شؤون البلاد، والمحكوم دوماً هو من لا يمتلكه أو اعتاد المنطق ولغة العقل في تسيير أموره، والعقاب دوماً (الموت بالرصاص أو بالحرق مع الرمي في إحدى طرقات مدينته) بعد تسميته " بالجثة مجهولة الهوية".
السيدة "عايدة الموسوي" من مدينة النجف كانت رئيسة لمؤسسة خيرية ترعى شؤون النسوة العراقيات وعائلاتهن، جل أهدافها يتلخص في توعية النساء وإخراجهن من سراديب الجهل التي سكنتهن، وعدم القبول بالبقاء على هامش المجتمع، مع تأمين المساعدات المعنوية و المادية للعائلات المنكوبة رغم عائداتها المالية المتواضعة التي اقتصرت على تبرعات أهل الخير وما تنتجه الجمعية.
"هذه السياسية الخيرية لم تحصل على رضا قادة الميليشيات الطائفية في المنطقة، كونها تعتمد على توعية المرأة وتقدمها، فطلبوا مني إيقاف نشاطاتي، مع العمل على إرسال كوادري من النساء للخدمة في بيوتهم أو للقتال حتى ضمن عناصرهم التخريبية.
وعندما كان الرفض جوابي، مارسوا عليّ سياسة ترهيبية، تطورت مع الإصرار على رفضي إلى محاولة اغتيال نجوت منها بأعجوبة أدت إلى إصابتي بثلاث طلقات استقرت إحداها في العامود الفقري ... ولولا لطف الله علي، لكان أصابني الشلل.
اضطررت بعد ذلك للرحيل إلى سورية تاركة كل شيء مقابل الحفاظ على حياتي وحياة أولادي، ضمن ظروف نفسية ومادية قاهرة لم تتوقف لولا لطف الله بنا، ووقوف أهل الخير إلى جانبي، ومفوضية اللاجئين التي قامت بتأمين أغلب احتياجاتنا، من رواتب شهرية، ومعونات غذائية وطبية.
فالوضع لعراق بات لا يطاق قوات الاحتلال تقف جانباً، فيما المليشيات تتحكم بكل تفاصيل الحياة في البلاد، تهجر عائلات بأكملها وتقتل من تريد تحت اسم الدين والمقاومة في بعض الأحيان".
"أم ياسر" من الجنوب أيضاً، اعتقلت قوات الاحتلال ولديها لانتمائهم إلى المقاومة، ثم قامت بإعدام أحدهم، والثاني لا يزال مجهول المصير. منزلها تعرض للنهب على أيدي إحدى الميلشيات الطائفية، لتهرب منه تحت وابل من الرصاص والقنابل التي انهالت عليها لمجرد كونها حاولت الوقوف في وجههم.
في الجنوب تقول "أم ياسر": "باتت الميلشيات المسلحة والتابعة لجهات خارجية تتحكم بمصائرنا وبلقمة عيشنا وبكل شيء، فلم يكفنا ظلم الاحتلال وما جلبه لنا من ويلات حتى تأتينا الميلشيات الطائفية لتكمل علينا.
لم يبق لي سوى الرحيل مع ولدي وبناتي الاثنتين، تاركة مصير ولدي الأسير لله سبحانه وتعالى، بعدما تاه في سراديب سجون الظلم الأمريكي".

حالات الاغتصاب .. بالجملة:

"أم توفيق" فاجعتها "فاقت كل التصورات": مسلحون اقتحموا منزلها... قيدوا زوجها وولديها، ثم تناوبوا على اغتصاب ابنتيها أمام أعينهم، وأخيراً حرقوا زوجها وولديها وهم أحياء ضمن سياسة ترهيبٍ لجميع السكان التابعين لسيطرتهم، وتحديداً لمن ينتمون إلى غير مذهبهم أو دينهم.
"دفنت رفات زوجي وأولادي" تقول "أم توفيق": "وتوجهت إلى الحدود السورية، بعد أن ساعدني شيخ الجامع في منطقتنا وأمدني ببعض النقود التي أوصلتني إلى دمشق، لتبدأ رحلة أخرى من المعاناة المادية القاهرة، استمرت لأكثر من ستة أشهر، إلى تكفلت برعايتنا إحدى الدور الخيرية وبمساعدة من منظمة اللاجئين".
السيدة "عايدة الموسوي" أكدت لنا رؤيتها لمقبرة جماعية لعدد كبير من الفتيات في مدينة النجف، تم اغتصابهن ثم قتلهن رمياً بالرصاص، ودفنهن دون أي رحمة على أيدي الميلشيات المسلحة في المنطقة، فضلاً عن أن هنالك العديد من العائلات ترفض استلام بناتها في حال تعرضن للاغتصاب، لكونهن قد جلبن العار لهم "بنظرهم" فيكون مصيرهن القتل على أيدي أقاربهن أو من قام باغتصابهن.
"الاغتصاب" ظاهرة باتت من أكثر الظواهر انتشار داخل البلاد، نتيجة الفلتان الأمني وحكم الميلشيات، ففي بغداد وحدها يحدث يومياً ما لا يقل عن عشرين حالة اغتصاب لفتيات عراقيات من مختلف الأعمار وحتى قد تصل أعمارهن إلى عمر التسع سنوات، فقد بين تقرير صادر عن منظمة (هيومن رايتش) العالمية المختصة بحقوق الإنسان أن عدد حالات الاغتصاب في العراق قد ارتفع إلى أعلى درجاته، كما أنه من الصعب تقديم إحصائية دقيقة لعدد ضحايا العنف الجنسي، نظراً لكون الكثيرات منهن لا يقمن بإبلاغ السلطات، أو حتى المنظمات الحقوقية والإنسانية عن مثل هكذا حالات.
وتروي المنظمة قصة الطفلة سابا . أ البالغة من العمر تسع سنوات والتي تم اختطافها من أمام منزلها من قبل عدد من الأشخاص المسلحين "التابعين لميلشيا مسيطرة على منطقتها"، قاموا باغتصابها وفض بكارتها بعد ضربها بمسدس على مؤخرة رأسها، ثم رميها في إحدى المناطق المجاورة ليتم إسعافها إلى المستشفى في حالة خطرة.
وما هذه القصة أو غيرها سوى عينة من عينات التحرير التي وعدت بها الولايات المتحدة الأمريكية شعب العراق ... وما ضحاياها سوى ثمرات هذه الديمقراطية المصنوعة تحت جنازير دباباتهم.

ضياع ... وسط الغربة:

"الملاهي الليلية باتت مصدر رزقنا، فموارد الرزق معدومة ضمن مناطق تعاني من البطالة المرتفعة أساساً، وليس لدينا ما يعيلنا من داخل العراق، فاضطررت إلى العمل في إحدى تلك الملاهي، التي كثرت وزادت بعد وصولنا، وبأجور لا تكاد تكفينا رمق العيش"
عبارات كانت مقدمة لحديث "جانا " وهو الاسم الحركي لـ "سعاد" من بغداد: "فبعد مقتل شقيقي على أيدي إحدى الميلشيات الطائفية، توجهنا إلى سورية حيث بقينا أكثر من ستة أشهر نعيش على مدخراتنا وبيع ما نملك من ذهب، إلى أن نفذ كل ما نملك، كنت خلال هذه الفترة أبحث عن عمل لكن دون جدوى، ففرص العمل قليلة هنا بالأصل، إلى أن التقيت بمتعهد حفلات عراقي، وطلب مني العمل في إحدى النوادي الليلة، لقاء أجر مادي مغر يغطي جميع نفقات الإقامة الغالية... في البداية رفضت، ثم اشترطت العمل معه كعارضة على "البيست" فقط، وبالفعل حتى الآن أصعد على "البيست" وأرقص أمام الزبائن حتى ساعات الصباح دون أن أتعاطى مع أي واحد من الموجودين، لأعود بعدها إلى المنزل ومعي ما يكفيني ويكفي عائلتي قوت يومهم".
"رنيم" وهو أيضاً الاسم الحركي لـ "فاطمة" التي أكدت أنها عندما تبيع جسدها في الملاهي الليلة ليس بالأمر أو الخطأ الكبير، مقابل وطن بيع بأكمله واستبيحت أعراضه وممتلكاته من قبل ميليشيات طائفية وقوات احتلال لا تعرف الرحمة...
فعدد الفتيات العراقيات اللواتي يعملن في الدعارة كبير، ولا توجد إحصائية دقيقة لهن، نظراً لتوزعهن في عدد من الدول العربية كلبنان وسورية والأردن ومصر وغيرها... فضلاً عن وجود شبكات منظمة وجدت فيهن الصيد المناسب لتوسيع تجارة الدعارة في المنطقة مستغلين عوزهن المادي.
ضواحي بيروت كانت ضيقة جداً على "أبو سليم" وعائلته، فالغلاء الفاحش أكبر من أن يوصف بنظره، فتشرد على الطرقات، ونام في الحدائق العامة مع زوجته وطفليه ...
"باتت الطرقات مأواي ومأوى عائلتي ... بعد هروبي من طلقات الرصاص والمدافع الموجهة نحونا ونحو كل أعزل وضعيف في البلاد. أصبحت جثثنا ترمى على الطرقات، نُقتل بسبب ودون سبب. لم نجد سوى الرحيل حلاً ... لم نجد سوى التشرد بين ساحات الغربة بديلاً لما نحن فيه".

بين الإقامة.... والتجديد:

موضوع الإقامة أو بما يسمى تصريح البقاء في الدول التي لجؤوا إليها، كان من أكثر المواضيع عناء ومشقة من قبلهم، فأغلب الدول التي لجؤوا إليها كانت تضع شروطاً وتعقيدات للحصول على تأشيرة البقاء تلك، فضلاً عن انتشار البيروقراطية وعدم التنظيم والفوضى في الدوائر المختصة بإصدار تلك التأشيرات.
فمع بداية نزوح العراقيين إلى سورية و لبنان والأردن، وضعت تلك الدول معايير وقوانين صارمة تجاه هجرة هؤلاء القادمين، ومع ازدياد أعداهم إلى درجة أنهم فاقوا المليونين في سورية والأردن، وقعت هذه الدول في أزمة اقتصادية وخدمية كبيرة، فضلاً عن ارتفاع عالٍ في الأسعار لجميع المواد الضرورية من غذاء وأدوية واحتياجات أخرى ... كل هذه الأمور انعكست على وجودهم وعلى طريقة التعاطي معهم في المجتمعات التي لجؤوا إليها.
موضوع الإقامة كان من إحدى تلك الأمور التي تأثرت بهذه المتغيرات، فلفترة كانت الإقامة تتجدد كل ستة أشهر ثم خفضت إلى ثلاثة أشهر ومنها لشهر واحد، ثم أعيدت إلى ستة أشهر... مما رتب على اللاجئين تعقيدات إدارية كانت تواجههم عند كل تجديد للإقامة.

الهروب نحو ...المجهول:

عندما تتوجه إلى مفوضية اللاجئين، أو إلى إحدى السفارات الأوروبية أو الأمريكية ... تجد أن العراقيين هم أكثر من يقفون صفوفاً على أبوابها، وبأيديهم أوراق ومستندات وشهادات طبية تؤكد سوء حالتهم الصحية، وتعرضهم لتهديد أمني أو تصفية جسدية في حال عودتهم إلى العراق ... طلباتهم فاقت المليون ونصف المليون بعد إحصائية قام بها عدد من الجمعيات ومركز للدراسات في بيروت، وبالمقابل كان عدد من قبلت طلباتهم لا يتجاوز بضعة آلاف، فضلاً عن تعقيدات وضغوط نفسية تمت ممارستها معهم أثناء استجوابهم في كل سفارة وبطريقة "تختلف عن الفروع الأمنية" ضمن سياسة متبعة من قبل السفارات الأجنبية للتأكد من خلوهم من نوايا إرهابية تجاه أوطانهم.

الرحيل من نار الأخ وقسوته من جهة وظلم المحتل واغتصابه لأرضهم من جهة أخرى عنوان هو الأنسب برأي للآلاف القصص، والجثث المجهولة الهوية، والمصابين بعاهات جسدية، والهاربين من جحيم الموت، عنوان لمسلسل نشاهد حلقاته كل يوم على شاشاتنا، كتبه يد الصهيونية بعناية، وأبدع الأمريكيون في إخراجه، فيما البطولة أسندت لمن نسي أن الجسد يرحل والأرض هي التي تبقى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق